موقف الشرع من زيارة القبور:
كما هو الشأن في سائر شرائع الإسلام أنها تكون في غاية من الاعتدال والسماحة، وصادرة عن حكمة بالغة تضمن لمن عمل بها على بصيرة: الفوز، والنجاح، والسعادة، دون أن يتعرض بسببها لأي نوع من أنواع الضلال والشقاء في الدنيا والآخرة.
كذلك كانت شرعية زيارة القبور في الإسلام حينما كان الناس حدثاء عهد بالكفر والشرك وعبادة غير الله نهاهم الرسول عن الزيارة، حتى يكون هناك برزخ فاصل بين العهدين عهد الشرك وعهد التوحيد، وعهد الجاهلية وعهد الإسلام حتى يذهب ما في النفوس من الالتفات إلى الأرض وما عليها مما يقدِّسه الناس، وعهد السموّ الروحي والصفاء القلبي والذهني الذي لا يبقى معه التفات إلى غير الله .
وفعلاً حينما حصل ذلك؛خاطب النبي أمته قائلاً
(كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) ((فإنها تذكر الموت))،وفي رواية: ((فإن في زيارتها تذكرة))، وفي أخرى: ((فإنها تذكر الآخرة)) ، وفي ثالثة
(فزوروها ولتزدكم زيارتها خيراً)) ،وفي روايـة رابعـة
(فإن فيـها عبرة)) ، ومن حديث أنس
(ثم بدا لي أنها تُرقّ القلب وتُدمع العين وتُذكر الآخرة فزوروها ولا تقولوا هُجراً)) .
وبهذا يشرع لنا الرسول الله زيارة القبور مع بيان العلة فيها وهي تذكرة الموت، والدار الآخرة، وتزهِّد في الدنيا، وترق القلب وتدمع العين، وينبغي أن يحرص الزائر أن تزيده زيارته للمقابر خيراً، وهذا كله فيما يخص الزائر.
أما الأموات فإن لهم فيها نصيباً أيضاً حيث كان إذا زارهم يدعو ويستغفر لهم، كما روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله : (كلما كان ليلتها من رسول الله يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجَّلون وإنا إن شاء الله بكم للاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)) ،وعنها رضي الله عنها أنها سألته إذا هي زارت القبور ما تقول: قال
(قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)) .
ففي هذه الأحاديث بيان أن من مقاصد الزيارة وعللها السلام على الأموات والدعاء والاستغفار لهم، قال الإمام الصنعاني -رحمه الله- في"سبل السلام "بعدما شرح أحاديث الإذن بالزيارة: (والكل دالّ على مشروعية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها وأنها للاعتبار... فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة شرعاً) .
فهذه هي زيارة القبور عند أهل السنة كما علّمهم إيّاها رسول الله فمن أتى بها على هذا الوجه ولهذه الغاية ظفر بالأجر والفائدة المترتبة عليها،ومن زارها لغير ذلك فهي ردٌّ عليه0 ثم إنها إما أن تكون بدعية، وإما أن تكون شركية بحسب ما يحصل فيها من أعمال ويقارنها من اعتقاد وقصد.
ذلك هو هدي الإسلام في زيارة القبور، وتلك هي أهداف وغايات الزيارة واضحة ناصعة بعيدة عن كل ذريعة تؤدي إلى الشرك بأربابها والغلوّ في أصحابها.