عندما يقترب المرء من قلب قرية واجير الواقعة إلى الشمال من كينيا، فيمكنه سماع أصوات الأطفال الصغار والشباب وهم يتلون القرآن الكريم بصوت رخيم يعلو مع السكون الذي يسود هذه القرية التي لا يزال سكانها نائمين في هذا الوقت المبكر من اليوم، ولكن لا عجب في ذلك؛ حيث تقع القرية وسط منطقة تسكنها غالبية مسلمة من السكان.
قد يكون هذا المشهد تقليديا في أي قرية تقع في بلد عربي أو مسلم، إلا أن أهمية مثل هذه المدارس تزداد في البلدان التي يعتبر المسلمون فيها أقلية مثل كينيا، ولتوضيح أهميتها يقول الشيخ نور عثمان، أحد معلمي القرآن في مدرسة قرية واجير: "نحن نشعر أننا قد حققنا إنجازا رائعا في توجيه الشباب المسلم لتقرير مصيرهم، وتثبيت هويتهم الإسلامية".
وأضاف لـ"إسلام أون لاين.نت": "إن هذا النظام التقليدي من التعليم الإسلامي يعود إلى زمن الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)".
ومدارس تحفيظ القرآن الكريم التقليدية أو "الكتاتيب"، والتي تعرف في اللغة السواحيلية باسم "الدوكس"، هي تقليد منتشر في مساجد كينيا، وهي في معظمها عبارة عن فصول يجلس فيها الطلبة في دوائر لحفظ القرآن الكريم، وإتقان تلاوته، وهي حجر الأساس للنظام التربية الإسلامية، وازدهرت في كثير من أنحاء شمال شرق كينيا؛ حيث غالبية مسلمة سنية من أصل صومالي، وفدت إلى هذه المنطقة في القرن السابع الميلادي.
ويستعمل في الدراسة مواد بسيطة يتم صناعتها من المواد المتاحة في البيئة المحلية؛ حيث يتم إعداد حبر الكتابة الأسود -على سبيل المثال- عن طريق طحن الفحم.
وبالتجول في مدرسة واجير، فيمكن رؤية المعلم وهو يجلس على كرسي صغير، بينما يلتف حوله أكثر من 70 من الطلاب، جلسوا في مجموعات متقاربة الهدف منها تشجيع التفاعل بينهم، وتحسين مستوى العلاقات بين الطلبة، ويقرءون من ألواح خشبية كتبت عليها آيات القرآن الكريم بأحرف مذهبة، بينما يرتدون ملابس رياضية خفيفة، لمساعدتهم على قضاء ساعات الدرس الطويلة.
ويقول عثمان: "على مر السنين ظلت الدوكس تعمل بطريقة بسيطة، بما جعلها بيئة مشجعة على حفظ القرآن الكريم، الذي هو حجر الزاوية في التربية الإسلامية"، مضيفا أن الطفل أو الطفلة يستغرق ما لا يقل عن ثلاث سنوات لإتمام حفظ القرآن الكريم، مؤكدا على أن ذلك يرسم مستقبل الإنسان كشخصية متدينة.
ولقد ظلت مدرسة نور عثمان على مدار الثلاثين عاما الماضية، هي الإطار الأساسي لتعليم أطفال القرية أساسيات الدين الإسلامي.
أحمد علي، أحد الطلاب والبالغ من العمر 13 عاما، يقول إن التحدي هنا هو أن نتعلم القرآن الكريم أولا، مشيرا إلى أن نظام المدرسة يعتمد على الحصول درسين يوميا، يبلغ متوسط عدد ساعات الواحد فيها أربع ساعات.
وأعرب عن أمله في أن يصبح قاضيا، مشيرا إلى أهمية تعلم القرآن الكريم لتحقيق طموحاته المهنية في المستقبل.
نجاح برغم المشكلات
وفي ظل غياب التمويل الحكومي عن دعم التعليم الإسلامي في كينيا، سعت الأقلية المسلمة ذات الأصول الصومالية إلى محاولة إيجاد بدائل وحلول لتعليم أولادهم، ولذلك كانت الكتاتيب أو "الدوكس" هي الوسيلة الحاضرة في هذا الشأن.
وفي هذا يقول الشيخ عبد الوهاب إسحاق، أحد مسئولي مجلس الأئمة والدعاة في كينيا: "لقد صارت الدوكس هي أنجح وسيلة معتمدة لتعليم الإسلام ونشره في أوساط المجتمعات الفقيرة، وهي تقدم وسيلة سهلة ورخيصة الكلفة للتعليم، ولاسيما في مجال الدراسات الإسلامية".
وأكد إسحاق أن مدارس القرآن الكريم "نحتت لنفسها مكانا في نشر القيم الإسلامية والتنشئة الاجتماعية ذات الطابع الإسلامي" في كينيا، وأضاف أن "الدوكس"، بجانب تعليمها القرآن الكريم واللغة العربية، توفر أساليب التربية الإسلامية للأطفال، وبالتالي المحافظة على هويتهم من التغيير.
أما المعلم نور عثمان، فيقول: إن الهدف منها هو معالجة القصور القائم في الدراسات الإسلامية في النظام التعليمي الكيني، مشيرا إلى أن الدور الذي تلعبه "الكتاتيب" في هذه المناطق، أدى إلى دعم وضع العلوم والمعارف الإسلامية في المدارس والمناهج الرسمية.
وشاركه في ذلك الرأي الشيخ محمد عبدي، وهو أحد معلمي مدرسة واجير، وقال: إن الإقبال على تعلم المعارف والعلوم الإسلامية اكتسب المزيد من الزخم في السنوات الأخيرة، حتى في المدارس الرسمية الحكومية، وهو ما سيدعم وجود مدارس القرآن الكريم التقليدية في المستقبل، بحسب قوله.
كما أشار عبدي إلى ملمح آخر لطبيعة هذه المدارس، وهو الجانب الاجتماعي التكافلي في أنشطتها؛ حيث قال: إن المدرسين الذين يعملون فيها يتقاضون رسوما زهيدة، وفي بعض الأحيان يتطوعون للعمل من دون أجر.
وقال إن نظام هذه النوعية من المدارس نجح نجاحا كبيرا في تحقيق أهدافه؛ حيث زاد عدد أبناء الأقلية الصومالية ممن حفظوا القرآن الكريم، والقادرين على تلاوته كاملا، زيادة كبيرة خلال السنوات الماضية، مؤكدا أن ذلك يعود إلى دور "الكتاتيب"؛ حيث إن كل طفل من أطفال المجتمعات المسلمة هناك لابد له من أن يمر أولا في منظومته التعليمية على مدارس القرآن الكريم، وهو ما يدعم هويتهم في مراحل حياتهم المستقبلية.
ووصل الإسلام كينيا في وقت مبكر؛ حيث يعود تاريخ وصول المسلمين الأوائل هناك إلى العقد الأخير من القرن الهجري الأول، وذلك عندما أقام بعض البحارة العرب مركزًا لهم على الجزر المقابلة لساحل شرقي إفريقيا، ثم بدأت الهجرات الإسلامية لهذا الساحل عندما انتشرت الخلافات في نهاية العصر الأموي.
ويشكل المسلمون في كينيا حوالي 35% من جملة تعداد السكان البالغين ما بين 22 مليونا إلى 24 مليون نسمة بحسب تعداد 2006، أي نحو 8 ملايين مسلم، ينتشرون في القطاع الساحلي في مدن باتا ولامو وماليندي ومومباسا، بالإضافة إلى تجمعات لهم داخل كينيا، كما في العاصمة نيروبي وما حولها، وهناك حوالي 50 هيئة ومجلسا لمسلمي كينيا، يشرف عليها المجلس الأعلى لمسلمي كينيا.